الشخصية السوية

الثقافة – أيّ ثقافة كانت – تطمح إلى تشكيل شخصية سويّة مطمئنة ، فاعلة ، واثقة ، فتسعى إلى صقلها نفسياً ، وفكرياً ، وسلوكيّاً ؛ لأن بناء الشخصية السويّة مفتاح البناء الاجتمــاعي . وتقدم الأمم أو تخلفها نتاج التخطيط الواعي لبناء الشخصية الفردية ، أو اللامبالاة ، أو الغفلة عن هذا الجانب الحيوي.
بدأت الحياة السياسية في نهاية فترة الخلافة الراشدة ترسم خطاً بيانياً ينحدر فيه النموذج الذي رسمه القرآن الكريم للشخصية المسلمة في بعض أنماطها عن الفكرة ، فعادت العصبية ، ونشأ الملك العضوض بعد ذلك ، وقد أثر ذلك الانحدار على حركة الثقافة ، وإن ظل لها حضورها الكبير حتى القرن الرابع الهجري ، الذي يمثّل العصر الذهبي للثقافة العربية كما عبّر آدم ميتز .
إننا لا ننكر أن الثقافة العربية ظلت على مستوى الإنتاج تقدم إنجازات هائلة حتى في أشد حالات التمزق ، والضعف ، والانكسار الحضاري والسياسي ، لكن المشكلة الكبرى تكمن في أن هذه الثقافة الأصيلة تراجعت على مستوى الفاعلية الحقيقية في الناس ، فبرزت الهــّوة سحيقــة بين النظرية والتطبيق .
وبدأ المثقف – على مستوى الكتلة الحرجة – ينسحب من المواجهة ، مواجهة الذات ، ومواجهة الواقع ، فاشتغل الحراك الثقافي ( بالهامش ) ، وظل مثقف القرون المتأخرة - في الأغلب - حاشية على متن ثقافي هائل ، يختصر ، ويحشّي ، ويقرر ، فتعطلت حركة الاجتهاد إلا من ومضات تظهر ثم تخبو تحت ضغط العقل الجمعي، الذي قدّس المألوف ، ورضي بالموجود .


وفي مطلع العصر الحديث تعرّض العالم العربي والإسلامي للاستعمار الغربي ، والحملات التبشيرية ، التي مهدت للاستعمار ، أو عاشت تحت حمايته ، حيث سعى المستعمر إلى تسويق أنظمته الثقافية ، ثم فرضها بعد ذلك بقوة السلاح ، حتى أصبحت مراكز صناعة القرار الثقافي في كثير من دول العالم العربي والإسلامي تدار برؤية غربية ، ورسمت استراتيجيات ثقافية للثقافة العربية ظل العقل العربي فيها غريب الوجه واليد واللسان كما قال أبو الطيب المتنبي .
وفي جانب آخر كانت المثاقفة مع الغرب ترسّخ هذه الرؤية ، وتعّزز هذا الارتماء الثقافي بحجة
( تحديث ) نظم التربية والتعليم ، أو ما سمي آنذاك ( بالتعليم العصري ) .
والمطّلع على الحصاد الثقافي لمرحلة ما سمّي في عالمنا العربي والإسلامي بـ(عصر النهضة ) يقف على عمق الهوّة التي كانت تفصل بين الرؤية الكونية للثقافة العربية ، والحراك الثقافي الذي ولّدته مثاقفة الغالب والمغلوب ، حيث لم يكن الوعي وحده هو الذي خضع للتغيير ، وإنما جوهر القيم والأخلاق .
هكذا أصبحت الثقافة استمراراً للسياسة بوسيلة مختلفة ، فالبحث في اللهجـــات ، والتنقيب عن الآثار ، وتدشين دور الفكر ومؤسسات الثقافة ، مثل مؤسسة فرانكلين للطباعة والنشر ، والمنظمة العالمية لحرية الثقافة ، ثم الحديث عن صدام الحضارات ، ونهاية التاريخ ، كل هذه الفعاليات التي تتلبس بأقنعة الثقافة هي رؤى سياسية تؤسس لغاية واحدة هي بقاء هذه البقعة من العالم في أغلال التبعية والتخلّف ، وفرض رؤية ثقافية واحدة ، على ثقافات عالمية تختلف مع تلك الثقافة في التصورات والإجراءات .
هذا الموقف لا أريد منه إشاعة ثقافة الكراهية ، ولا الدعوة إلى اعتناق نظرية المؤامرة بقدر ما أريد منه عزل المشكلة ، وتحليلها ، واكتشاف أسبابها ، وإيجاد الحلول المناسبة لها ، فالثقافات تتدافع ، وبينها قدر من الائتلاف ، مثل ما بينها قدر من الاختلاف . والثقافة الغربية اليوم تقود العالم شئنا أم أبينا، لكن فاعلية الأفكـار لا يعني أصالتهـا دائمـاً كما كان يعبّر مالك بن نبي .
لدى الثقافة الغربية جوانب قوة وأصالة ، كما أن فيها مواطن ضعف وانكسار، وهذا ما تحتاج إلى معرفته المثاقفة الراشدة ، التي لم نكن نملك شروطها في مطلع عصر النهضة ، ولم نزل نفتقد إلى كثير منها في هذا العصـر.
بعد مرور ما يزيد على مائة عام من المثاقفة مع الغرب ، نكتشــف أن المثاقفة لدينا - في أغلب الأحيان - كانت مثاقفة مع أفكار ميّته ، انتقلت إلينا بمورِّثاتهـا التي تحملها من وسطها الثقافي.