معنى عبارة " النبي الأمي " في نظر العلماء المحدثين

ناصر الأسد يتأمل حقيقة 'النبي الأمي'
لينا أبو بكر
20/05/2009


برنامج 'فكر وحضارة' برنامج أسبوعي تبثه الفضائية 'الأردنية'، يعده ويقدمه الأستاذ الجامعي الدكتور خالد الجبر، يركز البرنامج على طرح قضية فكرية أو ثقافية من خلال الحوار مع شخصيات علمية وفكرية وأكاديمية، مساء كل خميس، أما حلقة هذا الأسبوع فكانت تدور حول عصر الجاهلية كمسمى تم إطلاقه على الحقبة الزمنية التي سبقت ظهور الإسلام، فقد تساءل الدكتور الجبر عن سبب هذه التسمية وهل تعود إلى تخلف اجتماعي وحضاري أم أنها محصلة اعتبارات دينية بحتة، لا تمثل طبيعة تلك المرحلة؟
كان ضيف الحلقة في الاستديو العلامة والباحث الأردني الدكتور ناصر الدين الأسد، والذي وضح ان هذه التسمية جاءت من حالة الضلال الديني التي كان يعيشها العرب قبل الإسلام وهذه لا تعني بالضرورة عدم وجود حضارة أو تعكس تدهورا فكريا وعلميا، بل على العكس تماما، لقد بين الدكتور الأسد مدى ما كان يتمتع به العرب من حضارة فكرية اهتمت باللغة والشعر وبرزت فيه كفن وكوثيقة، ثم ذلك الحس الثقافي الذي لطالما غذى روح المعرفة لدى العرب قبل الإسلام، علاوة على الحضارة العمرانية، وما شابهها، وربما كانت العرب المناذرة والعرب الغساسنة أوضح مثال على هذا السياق. إلا أن المصطلح الديني صبغ تلك الحقبة بهذا المفهوم الغائم، واستبد بالتصور الذهني لهذا العصر الذي كان يموج بالحراك الثقافي والمعرفي والعمراني. ولهذا تحديدا لم يكن القرآن الكريم ببلاغته ولغته وجزالة معناه ولفظه وروعة التصوير والتعبير سوى دليل على ما تمتع به العرب من مقدرة ذهنية وبراعة فكرية ميزتهم بين الأمم، ولو كان العرب جاهليين لما نزل بهم قرآن بهذا الإعجاز.
الأستاذ خالد جبر تطرق لموضوعة العربي والبدوي، بحيث اوضح الدكتور ناصر الدين الأسد الفارق بينهما، من خلال الاستشهاد بحديث شريف، يشيد بالبدوي وتفضليه على العربي لما له من خصال اشتقت من بداوته التي هي أصالته، فالعرب كانوا قبائل، وشعوبا ولم يكونوا قبيلة واحدة، ولكل قبيلة عاداتها وتقاليدها ومنهجها الفكري - إن جاز التعبير - حتى ان الوأد لم يكن ظاهرة عامة في الجاهلية بل كان عادة اتبعتها قبيلة واحدة من بين عدة قبائل، وتم تعميمها على ذلك العصر فيما بعد مما يعد إجحافا بحق ذلك الزمن، وتعصبا أعمى يلغي الحقيقة، كما تفضل به الدكتور الأسد، بل إنه انتقد هذا التوجه ولم يعتبره وفاء للدين الإسلامي بقدر ما هو عصبية تاريخية - ان جاز لي القول- غير محمودة مطلقا.
إلا ان مسألة الأمية بالنسبة للرسول الكريم كانت الموضوع الأكثر إدهاشا، وهذا ما يميز البرنامج، حيث يسعى للإضافة لا إلى الحوار المكرور او العقيم، يسعى إلى الكشف والاكتشاف، وبحضور علامة وباحث بقامة الدكتور الأسد ستثق حتما من معلومة موثقة بأدلة شرعية وقرآنية، فالرسول كما وجد الدكتور الأسد لم يكن أميا بالمعنى المتداول حاليا، لأن كلمة امي لها دلالات اختلفت ضمن السياق التاريخي والزمني عما هي عليه الآن، والدليل ان الرسول الكريم كان قد غير في بنود صلح الحديبية إذ كتب بخط يده بندين آخرين، وإذ يؤكد الدكتور الأسد على هذه النقطة فإنه يرجح أن يكون الرسول الكريم قد تعلم القراءة والكتابة بعد نزول الوحي، إلا أن مصطلح الأمية حسب دلالته التاريخية الأولى يوضح المعنى المقصود من وراء عبارة 'النبي الأمي' حيث يستشهد الدكتور بالآيات القرانية التالية ليبرهن على نظريته :
' هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين' ثم أن عبارة الاميين ترد في آية أخرى لتدل على قوم يكتبون ويقرؤون :
' ومنهم اميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ويقولون هذا من عند الله'.
أما الآية الكريمة الاولى من سورة الجمعة -حسب الدكتور الاسد- فتشير بوضوح إلى ان معنى النبي الأمي هو النبي الذي هو من الأميين أي من غير أهل الكتاب ولا سيما اليهود أما النصارى فمنهم من يستعمل كلمة الاممي بمعنى الكافر غير النصراني وهم من طائفة الإنجيليين والبروتستانت، وعند اليهود: الغوييم بمعنى أمميين أغيار، كافرين...
الدكتور ناصر الدين الأسد إذ يبحث في النصوص التاريخية والدينية عن هوية التوثيق الحقيقي للدلالة، فإنه لا يركن إلى المسلمات بل يعمل ويجتهد انطلاقا من حس أخلاقي ووازع ديني يحثه على المعرفة والاستنباط، عملا بمبدأ التأمل، إذ يتفكر في النص القرآني تفكر المتدبرين.
هنيئا للفضائية 'الأردنية' بهذا البرنامج، الذي يثري شاشتها، وينهض بذهنية المشاهد إذ يغني معرفته ويعزز لديه طاقة الاكتشاف، وليس الأمر غريبا طالما ان من يتولون هذه البرامج هم اهل اختصاص ومعرفة قادرون على تطوير النهج الإعلامي والخروج من دائرة السائد، بحيث يرقى بذائقة المشاهد، فيستفز بالتالي لديه القدرة على السعي والاكتساب المعرفي وهذا تحديدا ما يولد لدى المجتمع طاقة الانتماء والنهضة.. طالما أن روادها هم أساتذة وعلماء باحثون وأصحاب فكر.
جاء الدكتور الجبر ليبتكر أنموذجا ثقافيا وإعلاميا راقيا، يحاور عن معرفة واطلاع، ويسائل تأملا واستزادة، يتعامل مع الحوار على اعتباره أفقا يشرع سبل الاطلاع، ويثير القضية لان في تناولها رسالة ابداعية واخلاقية تليق بمن يتبناها.

جزاك الله خيرا